تقارير

كيف أطاحت روسيا بالولايات المتحدة من عرش سوق القمح الصيني؟

كتب: هاني كمال الدين  

في تطور لافت يعكس تغيرات جذرية في المشهد التجاري العالمي، نجحت روسيا لأول مرة في التفوق على الولايات المتحدة في سوق القمح الصيني، حيث أصبحت المورد الرئيسي لهذا السوق الضخم خلال الموسم الزراعي الحالي (يوليو 2024 – يونيو 2025). فقد بلغت صادرات القمح الروسي إلى الصين 275 ألف طن خلال الأشهر الثمانية الأولى من الموسم، متجاوزة بذلك الـ147 ألف طن التي صدّرتها الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها. هذا التحول يأتي في ظل تراجع ملحوظ في الواردات الصينية من الحبوب الأمريكية، نتيجة فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على القمح الأمريكي منذ 10 مارس 2025، مما فتح الباب أمام روسيا لتعزيز حضورها في هذا السوق الحيوي. في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل هذا الإنجاز، أسبابه، وانعكاساته على الاقتصادين الروسي والصيني، مع الإضاءة على التحديات والفرص المستقبلية.

تصاعد صادرات روسيا إلى الصين

شهدت الأشهر الثمانية الأولى من الموسم الزراعي الحالي ارتفاعًا ملحوظًا في حجم القمح الروسي المصدر إلى الصين، حيث وصل إلى 275 ألف طن، وهو رقم يفوق ضعف ما صدّرته الولايات المتحدة التي لم تتجاوز صادراتها 147 ألف طن. ووفقًا لمركز “روس أجرو ترانس” التحليلي، فإن الصين استوردت حوالي مليون طن من القمح من الموردين الرئيسيين خلال هذه الفترة، مع تراجع إجمالي الواردات بسبب تحقيق البلاد محصولًا قياسيًا محليًا. ورغم أن كندا حافظت على مكانة بارزة بتصدير نحو 500 ألف طن، فإن الاتحاد الأوروبي وأستراليا لم يسجلا سوى كميات محدودة.

في السنوات السابقة، كانت الولايات المتحدة تهيمن على سوق القمح الصيني، حيث كانت تصدر ما بين مليون إلى مليوني طن سنويًا من إجمالي 13 إلى 14 مليون طن تستوردها الصين. لكن الرسوم الجمركية التي فرضها بكين في مارس 2025، كرد فعل على التوترات التجارية مع واشنطن، قلصت هذا الحضور الأمريكي بشكل كبير، مما مهد الطريق أمام روسيا لتأخذ زمام المبادرة.

أسباب التحول: السياسة والاقتصاد يشكلان المشهد

يرى الخبراء أن هذا التحول في سوق القمح الصيني لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة عوامل سياسية واقتصادية مترابطة. تقول الدكتورة دينارا فاسبييفا، الأستاذة المساعدة في جامعة التمويل التابعة للحكومة الروسية: “إن تصاعد الخلافات التجارية بين الصين والولايات المتحدة دفع بكين إلى تعزيز استيراد المنتجات الزراعية من روسيا كبديل استراتيجي”. وأضافت أن العقوبات الغربية على روسيا وردود الفعل الأمريكية أدت إلى تعقيد سلاسل التوريد الأمريكية، مما زاد من تكاليف التصدير إلى الصين.

من جانبه، يشير فاديم بيتروف، عضو المجموعة الاستشارية المالية بين الدورات في اليونسكو، إلى أن “الولايات المتحدة واجهت تحديات لوجستية وتجارية، منها إعادة تقييم مسارات الشحن وتشديد معايير الجودة، مما أثر سلبًا على جاذبيتها للمستوردين الصينيين”. في المقابل، استفادت روسيا من هذا الوضع عبر تقديم أسعار تنافسية وتسهيلات لوجستية، مما عزز مكانتها في السوق الصيني.

عقود طويلة الأمد: أساس الشراكة الزراعية

لم يقتصر نجاح روسيا على الظروف السياسية فحسب، بل دعمته اتفاقيات تجارية طويلة الأمد مع الصين. ومن أبرز هذه الاتفاقيات عقد مدته 12 عامًا لتصدير 70 مليون طن من الحبوب والبقوليات والمحاصيل الزيتية. وتؤكد الدكتورة غالينا سوروكينا، مديرة معهد الاقتصاد والتمويل في جامعة الإدارة الحكومية، أن “إطلاق محطة الحبوب في زابايكالسك، التي تبلغ طاقتها 1200 طن في الساعة، وتعديل بروتوكولات الاشتراطات الصحية النباتية، ساهما في تيسير تصدير الذرة والأرز من جميع المناطق الروسية إلى الصين، وليس فقط المناطق الحدودية”.

كما أن الإنتاج الوفير للمحاصيل خلال موسمي 2022 و2023 منح روسيا ميزة تنافسية، حيث قدمت أسعارًا منخفضة مقارنة بالمنافسين العالميين. ومع استثمارات كبيرة في تحديث القطاع الزراعي وتطوير البنية التحتية للنقل، أصبحت روسيا قادرة على تلبية احتياجات السوق الصيني بسرعة وكفاءة.

الصين ليست الهدف الوحيد: تنوع الأسواق الروسية

على الرغم من هذا الإنجاز في السوق الصيني، فإن الصين لم تصبح بعد السوق الرئيسي للقمح الروسي. ففي النصف الثاني من عام 2024، تصدرت مصر قائمة المستوردين بـ5.45 مليون طن، بزيادة 1.8 مرة عن العام السابق. كما تضم قائمة الدول الخمس الأولى تركيا وإيران وبنغلاديش والسعودية. وبلغ إجمالي صادرات القمح الروسي في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2024 نحو 30 مليون طن.

وفي إفريقيا، شهدت دول مثل المغرب ونيجيريا ولبنان والكاميرون زيادة مضاعفة في استيراد القمح الروسي في 2025 مقارنة بالعام السابق. كما بدأت دول أمريكا اللاتينية في التوجه نحو روسيا كمورد موثوق. ويرى المحللون أن مزيجًا من الأسعار التنافسية والموثوقية في التسليم والعقود طويلة الأمد سيضمن استمرار نمو الطلب على القمح الروسي عالميًا.

توقعات المستقبل: آفاق واعدة

يتوقع مركز “أغرو إكسبورت” أن يتجاوز تصدير الحبوب الروسي 75 مليون طن بحلول عام 2030، بقيمة تتجاوز 17 مليار دولار، مع استحواذ القمح على 80% من هذه القيمة. ويؤكد الدكتور سيرغي تولكاتشيف، أستاذ النظرية الاقتصادية في جامعة التمويل، أن “الصين تحولت من مستورد متواضع للحبوب في العقد الماضي إلى لاعب رئيسي، حيث قفز استيرادها للذرة إلى 30 مليون طن في 2020”. ومع استمرار التوترات مع الولايات المتحدة، يبدو أن روسيا في طريقها لتصبح الشريك الزراعي المفضل لبكين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من العربي للعدل والمساواة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading