العالم

الحرب التجارية.. تأميم آخر مصنع للصلب في بريطانيا لإنقاذه من الإغلاق

قررت الحكومة البريطانية تأميم آخر مصانعها للصلب “سكنثورب”، الذي صمد على مدار فترة تشغيله في وجه العديد من التقلبات الاقتصادية منذ ذروة الثورة الصناعية الأولى، وذلك في أثر غير متوقع للرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد أكثر من 100 دولة.

وتم تأميم مصنع “سكنثورب” بعد الحرب العالمية الثانية، ثم خُصخص في عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر، وجرى بيعه لاحقا لشركة صينية عام 2020، ولا يزال قائما بوصفه آخر منتج للصلب الخام في المملكة المتحدة، إلا أن بريطانيا عادت لتفرض سيطرتها عليه من جديد، عبر تصويت طارئ نادر في البرلمان الأسبوع الماضي.

ووقع المصنع في قلب أحدث صدامات التجارة العالمية، نتيجة للاضطرابات الجمركية، وتراجع العولمة، وتنامي الحيرة الأوروبية بين جذب الاستثمارات الصينية أو الحذر منها، بحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.

وأوضحت الحكومة أنها تأمل أن يكون الاستحواذ مؤقتا، حيث تبحث حاليا عن شركاء تجاريين للاستثمار في المصنع، بينما يشرف في الوقت الراهن وزير الأعمال البريطاني جوناثان رينولدز، على إدارة المصنع وتوفير المواد الخام اللازمة لتشغيله وضمان بقاء نحو 2700 عامل في وظائفهم.

ووفقا للصحيفة، تعكس هذه التطورات المفاجئة التي حازت على تأييد المحافظين وقادة الأعمال رغم أنها أقرب إلى التأميم، مدى تغير النظام الاقتصادي في بريطانيا وخارجها تحت وطأة الضغوط التجارية والأمنية والمالية.

وكانت بريطانيا قد اتخذت خطوة وُصفت بالقفزة بعيدا عن التكامل العالمي عندما انسحبت من الاتحاد الأوروبي عام 2020، كما سارت على خطى الولايات المتحدة في تشديد سياسات الهجرة، لكن الآن مع توجه ترامب لإعادة تشكيل علاقات التجارة والأمن، تجد بريطانيا نفسها، مثل كثير من الدول، غير متأكدة من أين تأتي بالتحالفات المستقرة والاستثمارات الآمنة.

وفي هذا السياق، قال مايكل كيتسون، أستاذ في كلية الأعمال بجامعة كامبريدج: “نشهد الآن توجها دوليا نحو الانغلاق والنزعة الوطنية”، مرجعا ذلك جزئيا إلى انتخاب ترامب في الولايات المتحدة، بجانب القلق من الملكية الأجنبية والعمالة الأجنبية في بريطانيا.
وقارن كيتسون بين التحرك البريطاني والجدل الدائر في الولايات المتحدة حول صفقة اندماج مقترحة بين شركة الصلب الأمريكية وشركة “نيبون” اليابانية للصلب، والتي عرقلتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بدافع الأمن القومي، بينما أمر ترامب بإجراء مراجعة أمنية ثانية.

ويرى الخبراء أن هذا التحول الدراماتيكي في بريطانيا يعكس تقاطع عدة توجهات اقتصادية، موضحين أن المصنع، المملوك لشركة “بريتيش ستيل”، يواجه صعوبات مالية منذ سنوات، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والمنافسة من المنتجين الأجانب الأرخص ثمنا، حيث كانت مجموعة “جين جيه” الصينية المالكة للشركة تخوض مفاوضات مع النقابات والحكومة بشأن برامج إنقاذ محتملة.
ومع قدوم إدارة ترامب الجديدة، واقتراب الولايات المتحدة من روسيا وابتعادها عن حلفائها في حلف الناتو، اندفعت أوروبا نحو تعزيز الاكتفاء العسكري الذاتي، ما رفع من أولوية الحفاظ على إنتاج الصلب المحلي كمسألة أمن قومي، ثم جاءت حملة ترامب العالمية للتعريفات الجمركية، التي قلبت قواعد التجارة الحرة رأسا على عقب، حيث فرضت إدارته رسوما بنسبة 25% على واردات الصلب الأمريكية، ما وصفه مسؤولو قطاع الصلب البريطاني بأنه “أسوأ توقيت ممكن” للصناعة.

وبعد تعثر المحادثات مع الحكومة، أعلنت “جين جيه” أنها تخسر أكثر من 900 ألف دولار يوميا من تشغيل المصنع، وطالبت بمزيد من الدعم الحكومي، فيما بلغ الأمر ذروته حين أبلغت العمال بخططها لإغلاق أحد الأفران الأكثر أداءً في مطلع مايو المقبل، وربما إغلاق آخر في الأسابيع التالية.

ودفع هذا الوضع غير المسبوق بقادة الأعمال إلى حث الحكومة على التدخل، رغم تحفظهم عادة على التأميم، ودعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى عقد أول جلسة طارئة في البرلمان خلال عطلة نهاية الأسبوع منذ عقود، وقال مكتب ستارمر قبيل التصويت: “في ظل الاضطرابات الاقتصادية العالمية، من الضروري حماية التصنيع المحلي”.

وأقر البرلمان البريطاني الأسبوع الماضي تشريع الاستحواذ على المصنع سريعا، متضمنا حماية قانونية للعمال الذين يرفضون تنفيذ أوامر بإغلاق الأفران، وكانت أول خطوة تنفيذية هي تأمين المواد الخام، حيث تواجد المسؤولون الحكوميون في المصنع خلال ساعات، وتم إرسال شحنات الفحم من ميناء قريب، ليعود المصنع إلى العمل بشكل طبيعي.

لكن القضية لم تُغلق بعد، حيث أعلنت الحكومة البريطانية سعيها تسعى إلى مستثمرين جدد، وتدرس خططا لتحويل المصنع إلى استخدام الكهرباء بدلا من الفحم كمصدر للطاقة، كما أبدت استعدادها للتفاوض مع المالك السابق حول التعويضات.
ومع ذلك، تسببت الخطوة في توتر دبلوماسي بين لندن وبكين، حيث أعربت السفارة الصينية عن استيائها من تهميش “جين جيه”، مطالبة الحكومة البريطانية بالتعامل مع الشركات الصينية بـ”عدالة وإنصاف” وعدم تحويل التعاون الاقتصادي إلى قضية أمنية وسياسية.

ونوهت “واشنطن بوست” إلى أن تحييد البُعدين السياسي والأمني في الاستثمارات الصينية صار أصعب، في ظل تصاعد الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، حيث تخشى الحكومات الأوروبية من أن تُغرق الصين أسواقها بسلع منخفضة التكلفة حُظرت من دخول السوق الأمريكية، وبينها الصلب، وفي الوقت نفسه تسعى بعض الدول الأوروبية لتعميق التعاون التجاري مع الصين، لملئ الفراغ التجاري الذي خلفته الولايات المتحدة.

وضمن الساعين لتعزيز علاقاتهم التجارية بالصين رئيس الوزراء البريطاني، حيث يسعى إلى مزيد من الاستثمارات الصينية في وجه دعوات متزايدة من السياسيين البريطانيين لمراجعة ملكية الشركات الصينية للقطاعات الاستراتيجية، ومنها الصلب والاتصالات والغذاء، خاصة في ظل واقعة مصنع “سكنثورب”، الذي يرى المنتقدون أنه لو أغلقته شركة “جين جيه” الصينية، لصارت بريطانيا الدولة الوحيدة في مجموعة السبع بدون منشأة لصناعة الصلب الخام.

ورأى كيتسون أن قضية سكَنثورب تشير إلى تحولات عميقة في الاقتصاد الكلي، تشمل التجارة الحرة والخصخصة والعولمة، لافتا إلى أن الدعوات الآن للتراجع عن الخصخصة التي تمت في عهد ثاتشر تتزايد، لا سيما في قطاعات المياه والسكك الحديدية.
وتوقع كيتسون صعود النزعة الاقتصادية القومية وتزايد الرقابة على الاستثمارات الأجنبية، قائلا: “هناك مخاوف من أننا نشهد سياسات تُشبه ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي: مزيد من الحماية، خطابات مناهضة للهجرة، ومخاوف من الملكية الأجنبية.. في أوقات كهذه، يلجأ البعض إلى لوم الآخرين على مشكلاتهم الاقتصادية”.
 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من العربي للعدل والمساواة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading